فصل: قوله تعالى: {وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} (286):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قوله تعالى: {لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا}:

يقتضي رفع المؤاخذة بالمنسي.
والمؤاخذة منقسمة إلى مؤاخذة في حكم الآخرة، وهو الإثم والعقاب.
وإلى مؤاخذة في حكم الدنيا، وهو إثبات التبعات والغرامات، والظاهر نفي حكم جميع ذلك.
وقوله عليه السلام: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان»، يقتضي رفع الخطإ مطلقا ورفع حكمه، فلا جرم قال الشافعي في المنهيات كلها، الفعل المنسي كلا فعل، فإذا تكلم ساهيا، أو سلم ساهيا، أو أتى بالفعل الكثير ساهيا، فلا تبطل صلاته أصلا.

.قوله تعالى: {لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ}:

استدل به على أن من قتل غيره بمثقل وتخنيق وتغريق، فعليه ضمانه قصاصا أو دية، خلافا لمن جعل ديته على العاقلة، وذلك يخالف الظاهر.
ويدل على أن سقوط القصاص عن الأب، لا يقتضي سقوطه عن شريكه.
ويدل على وجوب الحد على المرأة العاقلة، إذا مكنت مجنونا من نفسها.

.قوله تعالى: {وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا}:

يحتج به في نفي الحرج والضيق المنافي ظاهره الحنيفية السهلة السمحة، وهذا بين.

.قوله تعالى: {وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ} (286):

يحتمل نفي ما يثقل من التكاليف، نحو قتل النفس الذي كلف بنو إسرائيل.
ويجوز أن يعبر عما يثقل، بأنه لا يطيقه كقولك: ما أطيق الكلام، وما أستطيع أن أرى فلانا، ولا يريد نفي القدرة.
وقال تعالى: {وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} والمراد بجميع ذلك استثقاله فقط.
ويجوز أن يراد به نفي القدرة رأسا على الفعل والترك جميعا، فهذا تمام ما حضرنا من معاني القرآن في سورة البقرة. اهـ.

.قال القنوجي:

تفسير سورة البقرة:
وهي مائتان وست وثمانون آية.
قال القرطبي: مدنية نزلت في مدد شتى، وقيل: هي أول سورة نزلت بالمدينة.
إلّا قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} فإنها آخر آية نزلت من السماء ونزلت يوم النّحر في حجة الوداع بمنى، وآيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن. انتهى.
وقد وردت في فضلها أحاديث.

.الآية الأولى:

{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ} قال ابن كيسان: أي من أجلكم.
وفيه دليل على أن الأصل في الأشياء المخلوقة الإباحة حتى يقوم دليل على النقل عن هذا الأصل، ولا فرق بين الحيوانات وغيرها مما ينتفع به من غير ضرر، وفي تأكيد ما في الأرض بقوله: {جَمِيعًا} أقوى دلالة على هذا.
وقد استدل بهذه الآية على تحريم أكل الطين لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض.
وقال الرازي في تفسيره: إن لقائل أن يقول: إن في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض فيكون جامعا للوصفين، ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك وكذلك عروق الأرض وما يجري مجرى البعض لها ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه؟ انتهى.
وقد ذكر صاحب الكشاف ما هو أوضح من هذا فقال: إن قلت: هل لقول من زعم أن المعنى خلق لكم الأرض وما فيها وجه صحة؟ قلت: إن أراد بالأرض الجهات السفلية دون الغبراء- كما تذكر السماء ويراد الجهات العلوية- جاز ذلك فإن الغبراء وما فيها واقعة في الجهات السفلية. انتهى.
قال الشوكاني في فتح القدير. وأما التراب فقد ورد في السنة تحريمه، وهو أيضا ضار فليس مما ينتفع به أكلا ولكنه ينتفع به في منافع أخرى وليس المراد منفعة خاصة كمنفعة الأكل بل كلما يصدق عليه أنه ينتفع به بوجه من الوجوه.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله تعالى هذا: {سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ} جميعا كرامة من اللّه ونعمة لابن آدم وبلغة ومنفعة إلى أجل.

.الآية الثانية:

{وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانًا وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}.
{وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} أي قولوا لهم قولا حسنا، فهو صفة مصدر محذوف وهو مصدر كبشرى.
وقرأ حمزة والكسائي حسنا بفتح الحاء والسين وكذلك قرأ زيد بن ثابت وابن مسعود.
وقال الأخفش: هما بمعنى واحد مثل البخل والبخل والرّشد والرّشد.
والظاهر أن هذا القول الذي أمرهم اللّه به لا يختص بنوع معين بل كلما صدق عليه أنه حسن شرعا كان من جملة ما يصدق عليه هذا الأمر.
وقد قيل إن ذلك هو كلمة التوحيد وقيل: الصدق، وقيل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: هو اللين في القول والعشرة وحسن الخلق، وقيل غير ذلك.
أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله هذا: قال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وروى البيهقي في الشعب عن عليّ عليه السلام في قوله: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ} قال: يعني الناس كلهم.
ومثله روى عبد بن حميد وابن جرير عن عطاء.

.الآية الثالثة:

{وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102)}.
السّحر: هو ما يفعله السّاحر من الحيل والتخييلات التي يحصل بسببها للمسحور ما يحصل من الخواطر الفاسدة الشبيهة بما يقع لمن يرى السّراب فيظنه ماء، وما يظنه راكب السفينة أو الدابة من أن الجبال تسير.
وقد اختلف: هل له حقيقة أم لا؟ فذهبت المعتزلة وأبو حنيفة إلى أنه خدع لا أصل له ولا حقيقة وذهب من عداهم إلى أن له حقيقة مؤثرة.
وقد صح أن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم سحر: سحره لبيد بن الأعصم اليهودي حتى كان يخيل إليه أنه يأتي الشيء ولم يكن قد أتاه!! ثم شفاه اللّه سبحانه والكلام في ذلك يطول.
قال الزجاج في قوله: {وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ} تعليم إنذار من السحر لا تعليم دعاء إليه.
قال: وهو الذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر ومعناه أنهما يعلمان على النهي فيقولان لهم: لا تفعلوا كذا ومِنْ في قوله: {مِنْ أَحَدٍ} زائدة للتوكيد.
وقد قيل: إن قوله: {يُعَلِّمانِ} من الإعلام لا من التعليم. وقد جاء في كلام العرب تعلم بمعنى أعلم، كما حكاه ابن الأنباري وابن الأعرابي وهو كثير في أشعارهم كقول كعب بن مالك:
تعلم رسول اللّه أنك مدركي ** وأن وعيدا منك كالأخذ باليد

وقال القطامي:
تعلم أن بعد الغيّ رشدا ** وأن لذلك الغي انقشاعا

وفي قوله: {فَلا تَكْفُرْ} أبلغ إنذارا وأعظم تحذيرا: أي أن هذا ذنب يكون من فعله كافرا فلا تكفر. وفيه دليل على أن تعلم السحر كفر وظاهره عدم الفرق بين المعتقد وغير المعتقد، وبين من تعلّمه ليكون ساحرا ومن تعلّمه ليقدر على دفعه.
وفي إسناد التفريق إلى السّحرة وجعل السّحر سببا لذلك، دليل على أن للسحر تأثيرا في التلوث بالحب والبغض، والجمع والفرقة، والقرب والبعد.
وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر لا يقدر على أكثر مما أخبر اللّه من التفرقة لأن اللّه تعالى ذكر ذلك في معرض الذم للسّحر وبين ما هي الغاية في تعليمه فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره.
وقالت طائفة أخرى: إن ذلك خرج مخرج الأغلب وأن السّاحر يقدر على غير ذلك المنصوص عليه أيضا.
وقيل: ليس للسّحر تأثير في نفسه أصلا، لقوله: {وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ}.
والحق أنه لا تنافي بين قوله: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} وبين قوله: {وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} فإن المستفاد من جميع ذلك أن للسحر تأثيرا في نفسه ولكنه لا يؤثر ضررا إلا فيمن أذن اللّه بتأثيره فيه.
وقد أجمع أهل العلم على أن له تأثيرا في نفسه وحقيقة ثابتة ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة وأبو حنيفة كما تقدم.
وفي قوله: {وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} تصريح بأن السحر لا يعود على صاحبه بفائدة ولا يجلب إليه منفعة بل هو ضرر محض وخسران بحت.
قال أبو السعود: فيه أن الاجتناب عما لا تؤمن غوائله خير: كتعلم الفلسفة التي لا يؤمن أن تجر إلى الغواية. انتهى.
والمراد بالشراء هنا الاستبدال، أي من استبدل ما تتلو الشياطين على كتاب اللّه.
والخلاق: النصيب عند أهل اللغة.

.الآية الرابعة:

{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)}.
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} المشرق: موضع الشروق، والمغرب:
موضع الغروب. أي هما ملك للّه وما بينهما من الجهات والمخلوقات، فيشتمل الأرض كلها.
وقوله: {فَأَيْنَما تُوَلُّوا} أي أيّ جهة تستقبلونها فهناك وجه اللّه أي المكان الذي يرتضي لكم استقباله. وذلك يكون عند التباس جهة القبلة التي أمرنا بالتوجه إليها بقوله سبحانه: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}.
قال في الكشاف: والمعنى أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس فقد جعلت لكم الأرض مسجدا، فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها وافعلوا التولية فيها، فإن التولية ممكنة في كل مكان لا تختص أماكنها في مسجد دون مسجد ولا في مكان دون مكان. انتهى.
قال الشوكاني في فتح القدير: وهذا التخصيص لا وجه له فإن اللفظ أوسع منه وإن كان المقصود به بيان السبب فلا بأس. انتهى.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم- وصححه- والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال: أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا- واللّه أعلم- شأن القبلة. قال اللّه تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} الآية فاستقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فصلى نحو بيت المقدس وترك البيت العتيق، ثم صرفه اللّه إلى البيت ونسخها فقال: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ}.
وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن عمر قال: كان النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يصلي على راحلته تطوعا أينما توجهت. ثم قرأ ابن عمر هذه الآية: {فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقال: في هذا أنزلت هذه الآية. وأخرج نحوه عنه ابن جرير والدارقطني والحاكم وصححه.
وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر وغيره عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنه كان يصلي على راحلته قبل المشرق فإذا أراد أن يصلي المكتوبة نزل واستقبل القبلة وصلى. وروى نحوه من حديث أنس مرفوعا، أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود.
وأخرج عبد بن حميد والترمذي- وضعفه- وابن ماجة وابن جرير وغيرهم عن عامر بن ربيعة قال: كنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا فيصلي فيه فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا على غير القبلة! فقلنا: يا رسول اللّه لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة؟ فأنزل اللّه: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} الآية، فقال: مضت صلاتكم.
وأخرج الدارقطني وابن مردويه والبيهقي عن جابر مرفوعا نحوه إلا أنه ذكر أنهم خطوا خطوطا، وأخرج نحوه ابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا، وأخرج نحوه أيضا سعيد بن منصور وابن المنذر عن عطاء يرفعه وهو مرسل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} قال: قبلة اللّه أينما توجهت شرقا أو غربا.
وأخرج ابن أبي شيبة والدارقطني والترمذي- وصححه- وابن ماجة عن أبي هريرة عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال: «ما بين المشرق والمغرب قبلة» وأخرج ابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي عن ابن عمر مثله، وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن عمر نحوه.

.الآية الخامسة:

{وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمامًا قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}.
{لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}. اختلف في المراد بالعهد فقيل: الإمامة وقيل: النبوة، وقيل: عهد اللّه: أمره. وقيل: الأمان من عذاب الآخرة! ورجحه الزجاج، والأول أظهر كما يفيده السياق.
وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام لابد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع كما ورد، لأنه إذا زاغ عن ذلك كان ظالما.
ويمكن أن ينظر إلى ما يصدق عليه اسم العهد وما تفيده الإضافة من العموم فيشمل جميع ذلك اعتبارا بعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق، فيستدل به على اشتراط السلامة من وصف الظلم في كل ما تعلق بالأمور الدينية.
وقد اختار ابن جرير أن هذه الآية وإن كانت ظاهرة في الخبر أنه لا ينال عهدي بالإمامة ظالما، ففيه تعظيم من اللّه لإبراهيم الخليل: أنه سيوجد من ذريته من هو ظالم لنفسه. انتهى.
قال الشوكاني في فتح القدير: ولا يخفى عليك أنه لا جدوى لكلامه هذا فالأولى أن يقال: إن هذا الخبر في معنى الأمر لعباده أن لا يولّوا أمور الشرع ظالما.
وإنما قلنا إنه في معنى الأمر لأن إخباره تعالى لا يجوز أن يتخلف، وقد علمنا أنه قد نال عهده من الإمامة وغيرها كثيرا من الظالمين. انتهى.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله تعالى: {قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمامًا} يقتدى بدينك وهديك وسنتك.
{قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} إماما لغير ذريتي؟ {قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (124). أن يقتدى بدينهم وهديهم وسنتهم.
وأخرج الفريابي وابن أبي حاتم عنه قال: قال اللّه لإبراهيم: {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمامًا} فأبى أن يفعل ثم قال: {قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} 124.
وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال: هذا عند اللّه يوم القيامة لا ينال عهده ظالما. فأما في الدنيا فقد نالوا عهده فوارثوا به المسلمين وغازوهم وناكحوهم فلما كان يوم القيامة قصر اللّه عهده وكرامته على أوليائه.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية أنه قال: لا أجعل إماما ظالما يقتدى به.
وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: يخبره أنه إن كان في ذريته ظالم فلا ينال عهده، ولا ينبغي له أن يوليه شيئا من أمره.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه أنه قال: ليس لظالم عليك عهد في معصية اللّه.
وقد أخرج وكيع وابن مردويه من حديث علي عليه السلام عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في قوله: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (124): قال: «لا طاعة إلا في المعروف».
وأخرج عبد بن حميد من حديث عمران بن حصين: سمعت النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقول: «لا طاعة لمخلوق في معصية اللّه».
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في تفسير الآية: ليس للظالم عهد، وإن عاهدته فانقضه.
قال ابن كثير: وروى عن مجاهد وعطاء ومقاتل بن حيان نحوه.